Friday, October 23, 2009

جيراننا هادئون للغاية.. العيش قرب صمت القبور

عادةً ما نستخدم كلمة "جوار" و"يجاور" في وصف مكان سكننا لشخص آخر، وغالباً ما نحاول البحث عن "نقطة علاّم" بارزة تسهل

توصيف المكان والوصول إليه. ومن الشائع أيضاً أن نتباهى بتجاور مساكننا لقصر فاخر أو متحف أثري أو حديقة أو حتى لمسكن شخصية مشهورة، بل ونسعى للبحث عن هذه "النقاط" في "الجوار" حتى نربط مكان إقامتنا بها، شاعرين أن "قيمة" ما يحيط بنا تزيد من "قيمتنا" خاصة إذا كان المسكن يقع في حي "شعبي" أو "من الدرجة الثانية". ولكن هل من الممكن أن تصبح "نقطة العلام" التي نشير بها إلى منازلنا علامة خوف ورعب؟ وهل من الممكن أن ذكر مكان إقامتنا قد يدعو البعض إلى النفور وتجنب الاقتراب منا؟ وهل يفرض علينا المكان الذي نعيش فيه نوعاً من "التأقلم" حتى ولو كان مع أشياء يعدّها البعض غير مستحبة ومكروهة لا بل مخيفة؟ وهل نصل إلى المرحلة التي نخجل عندها من ذكر أين نسكن ونحاول التهرب من الإجابة خاصةً أمام أشخاص نلقاهم للمرة الأولى؟ جميع هذه الأسئلة حاولنا طرحها على "جيران المقبرة" لنعرف رأيهم بالعيش بجوار المكان الأشد "كرهاً ومقتاً" عند أغلبية الناس، ونتعرف إلى أي حد أصبحت حياتهم تشبه "جارتهم" أو أنهم استطاعوا إعطاءها نوعا من الحركة يتحدون به "الموت".

"جارتنا" منحتنا "نعمة" حرم منها الكثير من الناس في الوقت الذي يعدّ الأكثر ازدحاماً بدمشق، أي وقت الظهيرة، مشينا في الشوارع الخالية التي تحيط بمقبرة "الباب الصغير" باحثين عن شخص قد رضي بالسكن بجوار "الموت" لنجد "محمود" يجلس أمام دكانه الصغير، اقتربنا منه لنسأله عن رأيه في مكان سكنه، فابتسم مستغرباً بعض الشيء ليقول لنا أنه لم يفكر طيلة حياته بأنه يسكن بجوار المقبرة، إذ يعدّها جزءاً من الإطلالة الطبيعية لشرفة منزله، الذي يقع في بناء محله نفسه، وأن المقبرة لم تشكل له أي مصدر إزعاج على الإطلاق بل أنها كانت المكان الأمثل للاختباء أثناء اللعب مع رفاقه، عندما كان صغيراً. وأخبرنا الشاب أنه على عكس ما يعتقد البعض فإن المقبرة قد منحت سكان المنطقة هدوءاً "رائعاً" قد حرم منه سكان باقي الأحياء في دمشق، وأن الساعات القليلة التي يأتي بها أهل الموتى إلى المنطقة لا تشكل لهم إزعاجاً لأنها تكون ضمن ساعات النهار وقد اعتادوا على أصوات البكاء ومراسم الدفن بل أنهم أصبحوا "يسبقون" الشيخ في صلاته "وسيتنبؤون" بحركات الحفار قبل قيامه بها. وأضاف "محمود" أن الهدوء الذي يعيشونه لا يؤمن لهم الراحة فقط بل يسهل عليهم التعرف على أي احد سيحاول السرقة أو افتعال المشكلات في المكان لأنهم يشعرون بـ "دبيب النمل" حسب تعبيره، وأن كل صوت غريب يستطيعون تعرفه والعمل على إيقاف الشخص الذي يصدر عنه قبل أن يستطيع القيام بأي شيء، على عكس بعض المناطق التي قد يسرق فيها منزل في وضح النهار دون أن يشعر جاره الذي يشاركه الحائط نفسه بذلك. وهنا تدخل "أبو صياح"، الذي يعمل في محل مجاور، ليؤكد على "حسنات" العيش في جوار المقبرة، ويصف لنا أن السكن بجوار المقبرة هو "بركة" حسب ما وصفه له شيخ لطائفة دينية في إيران، وأخبرنا "أبو صياح" أن الناس يعدّون أنه بمجرد السكن جوار "العظماء" المدفونيين في مقبرة "الباب الصغير" كزوجات النبي محمد، وملوك بني أمية، والشاعر نزار قباني، والفارابي..." كل ذلك يعدّ إرثاً وتاريخاً مشرفاً يعتزّ به سكان المنطقة وهو غير متاح لغيرهم في أي مكان آخر. خيّرته بين الطلاق أو الانتقال من المنزل! أبو محمود الذي يسكن مقابل المقبرة في "الباب الصغير" والذي رأيناه مع ابنته الصغيرة يمشيان على الرصيف المجاور لسور المقبرة، أخبرنا أن السكن بجوار هذا المكان قد اعتادوا عليه ولا يؤثر على حياتهم أبداً، فهم يعيشون بشكل طبيعي وأطفالهم يذهبون إلى المدارس يومياً ويمرّون من أمامها دون أن تلفت انتباههم، أو أن يشعروا بشيء غير مألوف في ذلك. وتابع "أبو محمود" ليخبرنا أن أصوات الرصاص التي يطلقها ذوو الميت أحياناً، خاصةً إذا كان شاباً صغيراً، قد تسبب الرعب للأطفال الصغار، وأنه وجميع السكان يحاولون منع الأطفال من رؤية منظر الجثث أثناء دفنها، ولكن ذلك يحدث بشكل عرضي ولا يؤثر كثيراً على سير حياتهم، وأنه من النادر أن يستيقظ أحد الأولاد ليلاً من الخوف إلا إذا كان قد سمع قصة ما حول الأشباح أو الأرواح وغيرها من الخرافات والتي لا وجود لها أبداً، حسب ما أكد الرجل، وأنهم لم يتعرضوا ولا مرة إلى أي نوع من هذه الحوادث التي تحدثت عنها الخرافات. وقال لنا الرجل أن المشكلة الوحيدة في السكن أمام المقبرة تكمن في الروائع الكريهة التي يشمونها أحياناً مع هبوب الرياح، والتي تنتح عن فتح القبور مرة ثانية من أجل دفن أموات جدد، فوق الجثث القديمة، دون أن تكون الجثة الأولى قد تحللت تماماً ما يؤدي إلى صدور هذه الروائح التي تؤذي الناس وخاصةً الأطفال، مع العلم أنه هناك مدرسة للتعليم الأساسي بالقرب من المقبرة. وأضاف "أبو محمود" أن السكن في الحي جيد ولكن كان من الأفضل لو يتم تحسين "منظر" المقبرة قليلاً حتى يشعر الشخص بالراحة أكثر، فالمقبرة في بلاد الغرب "بتشهيك تعمل سيران فيها"، كلها مساحات خضراء، أما عندنا فحتى المساحة المخصصة لزراعة النباتات، حسب مخطط المحافظة، تم دفن موتى فيه. وتابع الرجل شارحاً أن المقبرة قد كانت منذ زمن على مستوى الأرض أما اليوم فقد ارتفعت سبعة طوابق وضحك معلقاً "ربما بعد عشر سنين سترتفع لتصل إلى خمسة وعشرين طابقاً، أو أنها ستحجب نور الشمس فيما بعد لتحول بيوتنا إلى مقبرة أخرى". وفي نهاية شارع مخيم اليرموك ثمة مقبرة من نوع آخر، هي مقبرة الشهداء، وقد امتد حولها الكثير من البيوت، "ليس حباً وإنما اضطراراً" حسب ما قال لنا "أبو أحمد شيخاني" الذي يسكن في منزل لا يبعد سوى أمتار عن جدار المقبرة، ومع ذلك أكد لنا الرجل على أن الأمر طبيعي ولا يوجد خوف وخاصة عند أولاده الشباب وأما البنات "حدث ولا حرج عن الخوف". يقول أبو أحمد "إنهن لم يتعودن على هذا السكن وأكلن رأسي بمطالبتي بأن أنتقل من هذا المنزل، وأقول لهن.. المقبرة ما بتخوف والميت ما بيقوم". وعلى ما يبدو أن فكرة العيش بجوار المقبرة، كانت إلى وقت قريب يحكمها الخوف من الموت ومن طقوس الدفن، وحتى أن العائلات التي كانت مضطرة للسكن حول المقبرة لا تحبذ الحديث عن "جمال بيتها وموقعه" حسب ما روى أبو أحمد، أما هذه الأيام وبسبب أزمة السكن يعلق الرجل "إذا واحد منا صار له بيت ويعيش في المقبرة ما بيقصّر". أما سعيد الذي يملك محلاً بجوار مقبرة "باب الصغير" فقد رأى أن العيش في هذه المنطقة لا يختلف عن أي منطقة أخرى فلكل منطقة مميزاتها، وقال الرجل إن الناس قد بدؤوا يتقبلون فكرة العيش بالجوار، وأن هناك الكثير من الأبنية الحديثة التي ما زالت قيد التشييد ما يدل على وجود راغبين في السكن. وأضاف سعيد أن سعر المتر في المنطقة ليس رخيصاً أبداً فهو يكلف بين /24-25/ ألف ليرة سورية أي حوالي /4-5/ ملايين ليرة ثمن للشقة الواحدة، وأن هناك سكان جدداً باستمرار، وتابع الرجل ليقول لنا إنه على الرغم من ذلك فإن هناك أناساً وصفهم بـ "المتخلفين" يرفضون العيش في المنطقة بسبب المقبرة، وروى لنا قصة جاره الذي خيّرته زوجته بين العيش في المنزل الجديد بجوار المقبرة أو تطليقها ما اضطر زوجها إلى بيع البيت بـ "الرخص" وخسارته حوالي /500/ألف ليرة سورية لأن زوجته لا تستطيع النوم بسب "أرواح الأموات التي تحول حول المقبرة ليلاً". نمرّ أمامها جرياً ومن المستحيل أن ندخلها ليلاً وأمام دكان سعيد تجمع بعض الأطفال الذين خرجوا من المدرسة وعلامات "الحياة" بدت واضحةً على وجوههم لا تشير إلى أي علاقة تربطهم بـ "الموت" الذي يسكن المكان، وحتى أن شغبهم طغى على هدوء المكان وسكينته. وبكل عفوية قال لنا أحمد الطفل في الصف الخامس إنه لا يدخل المقبرة أبداً إلا إذا كان مضطراً، وأنه عندما يمرّ من أمامها "يقب بدنه ويقشعر جلده" من الخوف، وعندما يضطر إلى اجتياز الطريق المؤدية إلى بيته ليلاً يغمض عينيه ويفرّ هارباً دون أن يفتحهما حتى يطمئن أنه وصل إلى "بر الأمان". وأضاف أحمد أنه قد رأى أمواتا كثر لكنه لا يحب رؤيتهم لذلك يركض عندما يمرّ من عند باب المقبرة، وأنه عندما يكون أمامها يتذكر جميع القصص التي رويت له عن الأرواح والأشباح لذلك يركض ليتخلص من هذه الحكايات. أما فاطمة، صف سادس، فتقول بأنها تدخل إلى المقبرة أحياناً ولكن في الصباح فقط فهي من المستحيل أن تدخلها ليلاً، وأنها تعودت رؤية الجنازات، وقالت لنا إنها عندما ترى الجنازة تكتفي بقراءة "الفاتحة" على الميت ثم تتابع طريقها. أيمن، صف سابع، كان أجراً قليلاً من صديقيه حيث أخبرنا أنه يدخل إلى المقبرة ليلاً ولكنه لا يدخلها بمفرده، وعندما يدخلها بمفرده يكون "معاقبا" من قبل أصدقائه لأنه أدخل الكرة إلى داخل المقبرة وعليه جلبها بمفرده حتى لا يقوم بذلك مرة أخرى. تناقضٌ كبير يعيشه "جيران المقابر" في كل مكان يجمع بين رهبة "الموت" وإصرار على "الحياة"، بعضهم قد تعايش مع الوضع ووجد في مسكنه مميزات "تقنعه" بحالته، وبعضهم تمرّد على وضعه مستعيضاً عن الهدوء في الشوارع بالهدوء النفسي، ولكن الجميع قد أجمع على شيء واحد "العيش بجوار المقبرة: مكرهُ أخاك لا بطل".


راما الجرمقاني

No comments:

Post a Comment