Friday, October 23, 2009

"رجال" تحت السن القانوني يؤدون خدمة "الميزان" قبل خدمة العلم

لم يعرف "رامي" الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره أن ذلك الشاب الذي يشتري منه "الكولا"، في كل مرة يراه فيها، أنه يترصده ليعتدي عليه في حديقة كبرى بدمشق
إذ أخبرنا الطفل أن الشاب بدأ يضربه أحد المرات على مؤخرته ويمسكه من أماكن حساسة مبررا الأمر بالمزاح. يقول رامي بأنه يبيع "الكولا" للزبائن في الحديقة منذ عامين وأثناء العمل قد نبهه والده من الاقتراب من الشباب الأكبر منه سنا، وأن لا يلبي دعوة أي منهم على أي مكان، ولكن الأمر لم يتوقعه عندما أخبره الشاب أن في الحديقة، وفي مكان منزوي وفي توقيت المساء تحديدا أن هناك شجرة مشمش بإمكانهم أن يأكلوا منها، وعند الوصول أمسكه ليقبله، وعلا صراخه إلى أن سمعه بعض الشبان، وكذلك حراس الحديقة الذين أوسعوا الشاب ضربا وسلموه إلى قسم الشرطة القريب. ورغم كل القوانين التي صدرت في سوريا، وكذلك الاتفاقيات العالمية التي تخص حقوق الطفل وكذلك تمنع عمله، إلا ان قصة رامي "الصريحة" وقصص عشرات الأطفال مثله في شوارع دمشق تؤكد البعد الكامل لثقافة المجتمع وربما فقر بعض شرائحه عن تلك الاتفاقيات، وحتى القوانين حيث "استغلت" بعض العائلات وضع أطفالها لتعلمهم كيفية "تحصيل" المال وبطريقة سهله، ومع كل ذلك لنبدأ علنا نصل إلى الحقيقة ونحن نعرف أنها في تفاصيل حياة هؤلاء الأطفال صعبة المنال. خائف من والده.. ويعمل "حطوا الخمسة ومشوا" تلك العبارة وضعها محمد ذو الأعوام العشرة كحاجزٍ أمامنا ليمنعنا من التحدث معه بعد أن حرك رأسه بكافة الاتجاهات دون أن يزحزح جسده النحيل من على بلاط الرصيف الساخن الذي اتخذه مكاناً له مع ميزانه الصغير تحت أشعة الشمس الحارقة.. مشينا قليلا بعد أن يأسنا من التحدث معه فجاء صوته يقول: "عنجد ما بقدر احكي معكم بيقولوا لأبي! بس في غيري كتير بيحكوا". وحقيقة إن عشرات الأطفال بل المئات يعيشون معاناة محمد اليومية في شوارع دمشق، إذ يجلسون في زوايا معينة وعلى إشارات السيارات أمام الجامعات والجوامع والملاهي والمطاعم.. يحجزون على الأرصفة والطرقات مكانا ً لإقامتهم الدائمة وربما يتعلمون ويعلمون أولى دروس الانحراف والجنوح.حملنا الكاميرا وبعض "الفراطة" وتابعنا بحثنا عن حالات أخرى حيث تبين أن منطقة جسر الرئيس والبرامكة وسط دمشق المكان الذي يتجمع فيه العدد الأكبر من هؤلاء الأطفال الذين يحاولون أن "يساعدوا" أسرهم بموازينهم أو علب العلكة في الوقت الذي عجز فيه ميزان العدالة الاجتماعية عن رؤيتهم. على بعد عدة أمتار من مكان جلوس محمد رأينا "حسين" الطفل ذو الثماني سنوات يجلس على الأرض مسنداً ظهره إلى حديد السياج الساخن مستعيضاً بسخونته عن البرودة الموجودة في نظرات الناس الموجهة نحوه. كان حسين يضع الميزان أمامه وينظر إلى الناس نظرة ذلٍَ واستعطاف، تردد في الكلام معنا في البداية ولكن بعد أن أخذ أجرته وزيادة قليلة بدأ بإعطاء الإجابات التي استطعنا أن نعرف منها أنه الولد الأكبر في العائلة ولديه أخ وأخت ووالده يعمل سائق على أحد السرافيس وأنه من محافظة الحسكة ومن إحدى القرى فيها أصلاً، وأخبرنا أنه يعمل يومياً منذ ساعات الصباح الباكر حتى آخر الليل يجني يومياً ما بين الـ /50 -200/ ليرة سورية وأكد لنا أن والده لا يعاقبه مهما كان المبلغ الذي حصل عليه.وتابع: "أبي لا يعاقبني ولكن هناك بعض الناس يضايقونني أحياناً لذلك أعود إلى المنزل باكراً". و لكن دهشتنا كانت كبيرة عندما علمنا أن حسين لم يدخل مدرسة في حياته وأنه لا يعرف القراءة أو الكتابة وأن كل ما يعرفه عن مبادئ الحساب تقتصر على عد النقود التي يعود بها إلى المنزل يوميا.وعندما سألناه عن المدرسة نظر إلينا نظرة حسرة وقال: "يا ريت بقدر روح على المدرسة وبشتغل بعد ما ارجع "وقبل أن نتركه لنتحدث إلى طفلٍ آخر سألناه: منذ متى وأنت تعمل؟ فقال مباشرةً: "من شهر" وبعد عدة كلمات تبين أن حسين يجلس في مكانه هذا منذ أكثر من سنة وأنه لا يعرف تقدير المدة الزمنية بشكل صحيح. فغادرنا ونحن لا نعلم إن كان عمره بالفعل ثمان سنوات أو أكثر أو حتى أقل؟!.
الإحصاء يظهر أن نسبة العمالة في الريف أكبروقد أظهرت دراسة أعدها المكتب المركزي للاحصاء في سوريا ومنظمة «فافو» النرويجية أن مجموعة الأطفال من عمر 10 الى 11 سنة تساهم بنسبة 1،3% في العمل، مما يعني ان 439،26 طفلاً يعملون.. فئة الاعمار بين 12ـ14 سنة تساهم بنسبة 8،12% أي 171659 طفلاً، وفئة 15ـ17 سنة تساهم بنسبة 9،32% أي ما مقداره /422856/ طفلاً.. ويبين المسح ان ثلثي الأطفال العاملين يتركزون في المناطق الريفية، بينما الثلث الآخر يعمل في المدن والمراكز الحضرية. وهذا الفرق ناتج عن عمل الفتيات في القطاع الزراعي. ربما شمل الإحصاء "باسل" الذي يجلس في زاوية صغيرة تحت الجسر وربما لم يشمله ولكنه كان يحمل علب العلكة ينتظر زبوناً وعندما اقتربنا فرح وبدأ يدعو لنا بالنجاح والخير ولكنه عندما علم أننا اشترينا منه لكي نتحدث معه خاف قليلاً وأجابنا أجوبة مقتضبة وفر هارباً ولم يسمح لنا أن نصوره ولكن بعض رفاقه أعطونا معلومات عنه أنه صف سابع ولا يعمل سوى أيام العطل وهم الآن في فترة الانقطاع من أجل التحضير للامتحانات وعندما سألنا الأطفال هل تعملون أيضاً أجابوا: "لا ولكننا نساعد صديقنا". فسألنا: كيف؟ قالوا: "ندله على الزبون الذي نشعر أنه من الممكن أن يشتري منه دون أن يزعج باسل أو أن يلح عليه كثيراً كي لا يتعرض للإهانة" فقلنا: وهل تعرض للإهانة في مرة سابقة؟ فقالوا: كثيراً ما يقوم الناس بإبعاده بقوة أو توجيه بعض الكلمات السيئة له أو تنفيض ثيابهم من بعد أن يلمسهم بعلب العلكة فكل ذلك يزعجه ويؤثر به".
البعض يعمل.. والبعض يتسول..ومن دون أن نجهد أنفسنا بالبحث اقترب أحمد الصغير جداً حسب مقاييس العمل في الشوارع لكي يبيعنا العلكة التي بيديه فقمنا بإعطائه ثمنها دون أن نأخذ العلبة منه كي يبيعها مرة أخرى ويربح منها فنظر نحونا نظرة ملؤها الكبرياء بعينيه اللتين لمعتا من الدموع التي تجمعت فيهما ورمى لنا بالعلكة وقال لنا: "خذوها بثمنها أنا لا أشحذ منكم أنا أبيع".وقبل أن نستيقظ من صدمة المشهد السابق تكرر المشهد أمامنا ولكن مع طفلٍ آخر رفض أخذ ثمن ما يبيع دون بيعه فعلاً وترك العلكة لشابٍ أمامنا على الرصيف بعد أن رفض أخذها وتبين لنا فيما بعد أن هذين الطفلين أخين/ أحمد وعلاء/ وهما حديثا العهد بالعمل ولا أحد أعطانا أية معلومات إضافية عنهما. وعلى نقيض الحالتين السابقتين فإن عمر صف سابع قد قبل ما أعطيناه بكل سرور وفرح عندما تركنا له ما يبيعه معه وبدأ بالدعاء لنا وعندما سألناه: هل تأخذ دائماً المال دون أن تبيع فقال بفرح: "نعم فهذه شطارة" فسألناه ألا تعتبر الأمر شحاذة؟ فقال: "اعتبروها كيفما تريدون المهم أن أعود إلى المنزل بـ /200/ ليرة يومياً" ثم انصرف ولم يرض أن يتابع الحديث معنا. التدخين يجعلهم رجالا وأمام تجمع كليات البرامكة شاهدنا أحد الأطفال والذي لا يتجاوز الـ /12/ سنة يدخن أمام باب الكلية منتظراً زبون كي يبيعه علكة فاقتربنا منه وسألناه: هل يشتري منك أحد وهم يروك تدخن؟ لا أحد يعطيك لتدخن بما تجني؟ فقال: "أنا رجال وبعمل كيف ما بدي" ثم أضاف "ما حدا طلب منكن تشتروا" وقال لنا صديقه الذي بجانبه: "جميعنا هنا ندخن وكل الذين يعملون مثلنا أيضاً" فسألناه: ألا يعاقبك والدك إذا رآك تدخن؟ فقال: "أنا الأب في المنزل فوالدي متوفى وأنا أعمل لأصرف على أمي وأختي وبعدين نحنا كبار". وقال الآخر: "كل الشباب في هذه المنطقة يدخنون وإذا كنت لا تدخن فستصبح مدخن بعد أقل من شهر من العمل لأنهم لا يحترموك أو يعتبروك كبير إلا بهذه "وأشار إلى لفافة التبغ في يده، فقلنا له: ولكن هل يكفيك ما تحصل عليه من البيع لتدخن وتؤمن حياة أسرتك؟ فقال: "أنا ما بحمل باكيت أنا بدخن شحادة متل ما بيقولوا" وضحكا ثم طلبا منا الانصراف. في نهاية الأمر سورية صادقت على اتفاقيات العمل الدولية والتي تضمن بعضها احكاماً تتعلق بتشغيل الاحداث وتأمين الحماية لهم، وعملت على تطبيقها، وذلك منذ انضمامها الى منظمة العمل الدولية في سنة 1947، ‏ كما صادقت الحكومة على اتفاقية حقول الطفل، في سنة 1993 التي اقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر تشرين الثاني عام 1989... ومع كل ذلك لم تصادق على طريقة جدية وحضارية وقانونية تحد حقا من عمالة الأطفال وتشغيلهم ليؤدون خدمات العلكة والميزان ومهن أخرى قبل خدمة العلم... الإجبارية.

راما الجرمقاني

No comments:

Post a Comment