Friday, October 23, 2009

البغل" مشروع "استثماري" عند الفقراء لم تعتبره الحكومة من وسائل الترفيه بعد!

من النادر أن يستوقف منظره و هو يسير في الشوارع اهتمام المواطن السوري، لأنه أصبح جزءاً من يومياتنا التي نعيشها في كافة أيام السنة، بل أنه أصبح أحد أهم مظاهر فرحنا و الطقس الأساسي الذي يتواجد بقوة في كل عيد ليشارك أطفالنا بهجتهم، لم تعد مراسم استقبال الشتاء تكتمل لدينا من دون أصوت أقدامه
التي تجلب الدفء" المازوت" معها، ولا حتى يمكننا أن نستقبل الصيف بلا عربات "العوجا و الجارنك" التي تؤكد اقتراب وصول هذا الفصل."البغل السوري"حاضر في تفاصيل حياتنا يشاركنا فصولنا و مناسباتنا و أفراحنا و أمثالنا بل وحتى شتائمنا من دون أن نحاول إعطاء هذا الحيوان الهجين حقه، ونرد له الجميل الذي يقدمه لنا من دون أن نشعر..
"طعميه..بطعميك"
في سوق"البغال و الحمير" في منطقة حرستا الواقعة في ريف دمشق رأيناه يقف بفخر أمام بغله المزين بشكل متناسق يبحث بين الزبائن عن شخص يليق باستئجار بغله "المدلل" مع "طنبره" الذي يبيع عليه المازوت ."كرمو"الشاب الثلاثيني أخبرنا أن اهتمامه الكبير بـ"بغله" يرجع لكون البغل مصدر رزقه الوحيد، فهو حيوان نشيط يمكن استغلاله، طيلة أيام العام و بكافة الفصول في أعمال مختلفة، و أضاف أن كل يوم هو موسم حقيقي بالنسبة للبغل، ففي موسم التفاح يعمل بجر عربة بيع التفاح و في موسم البطيخ كذلك و البصل، هكذا في كافة المواسم، و أنه في الشتاء يجر "طنبر" المازوت،إلا أن الطلب على استئجاره يرتفع في فترات الأعياد حيث يتم تأجيره للأطفال لركوبه أو لجر العربات و القيام بجولات في دمشق.و تابع "كرمو"بعد أن نظر بفخر و مودة إلى حيوانه و مسد له رقبته:"البغل لا يطلب من صاحبه شيء فهو يعمل بهدوء، و يكفي أن تطعميه حتى يطعميك أنت و عائلتك"،و أخبرنا الشاب أن كلفة البغل يومياً لا تزيد عن /100/ ل.س /75/ شعير و /25/ تبن، في الحين الذي يصل أجار البغل في اليوم الواحد إلى /150/ ل.س و مع "طنبر" بـ/350/ ل.س وطبعاً يزيد السعر في المواسم و وقت الأعياد.و بعد ابتسامةٍ عريضة اعترف لنا الشاب أن أكثر المصاريف التي تصرف على "البغال" هي المصاريف المتعلقة بالزينة، فهناك من يزين بغله ،خاصةً الذي يستخدمه في المناسبات، بزينة يصل سعرها إلى /10/ آلاف ليرة و هناك زينة عادية كالتي يضعها لـ"بغله" ثمنها /2500/ ليرة.
كلما كان "أصغر" ازداد الطلب عليه
في أثناء حديثنا مع "كرمو" تدخل أبو علي الذي كان يقف بجواره في سوق "الخميس" أو "سوق البغال و الحمير" ليخبرنا بأسى أن جاره فخور بـ"بغله" لأنه مازال فتياً إلا أن البغل الذي يتقدم في العمر تصبح "همته" على العمل أقل مما يسبب الأضرار لصاحب البغل بل و أن إطعامه يصبح عالة عليه و لكنه مع كل ذلك يبقيه لديه نظراً للرابط الذي ينشأ بين "البغل" و صاحبه، فالشخص لا يمكن أن ينسى للبغل الأيام التي ساعده فيها و العمل الذي كان يقدمه له و لكن في بعض الأحيان يضطر للتخلص منه، مع بقاء ذكريات كانت تربطه مع صاحبه .و يضيف أبو علي بشيء من السخرية أن كل هذا عادي أمام أن يموت البغل فجأة بالتأكيد سيسبب مصيبة لصاحبه كما حدث معه ، فلقد اضطر إلى استدانة مبلغ /25/ ألف ل.س لشراء بغل "جديد" فتي ،و ذلك أغلى من البغل الهرم ،الذي يتراوح سعره بين /15-20/ ألف ل.س و أن هذا السعر يزيد أو يقل قليلاً حسب عمر البغل و الموسم الذي يبلغ ذروته في الصيف.و يتابع أبو علي ليخبرنا أن سعر البغل لا يتوقف فقط على عمره فـ"البغل" مثل السيارة تماماً له موديلات و أنواع تختلف جودتها و قدرتها على التحمل حسب نوعي السلالتين اللتين ينتمي إليهما الحيوان المهجن، و لكنه يؤكد على أن أسوء أنواع "البغال" هي التي تعض أو ترفس فهذه يصل ثمنها إلى /5/ آلاف ل.س و مع ذلك فإن القليل من الناس يقدم على شرائها، و لا بل أحيانا يضطر البعض للشراء بسبب فقره، و يحاول أن يتجنب عضتها.
البغل أهم من السيارة مليون مرة
وبينما كنا نتحدث مع الرجلين اقترب منهما زبون يريد شراء أو استئجار بغل، حسب السعر الذي سيتم الاتفاق عليه، ومن خلال حديث الزبون مع البائعين أو "المستثمرين" استطعنا أن نعرف أنه يريد البغل ليبيع عليه الخضار في مناطق داخل دمشق وعندما سألناه إذا ما كانت السيارة أفضل من البغل خاصة و أنه يريد التنقل ضمن شوارع العاصمة مما قد يعرضه إلى مشاكل كثيرة.أجابنا أبو عبدو أن البغل "مشروع استثماري" مضمون أكثر من السيارة بكثير و أهم من السيارة بمليون مرة، فهو لا يحتاج إلى مبلغ مالي كبير لشرائه مقارنةً مع السيارة، إضافةً إلى أنه لا يتوجب على صاحبه دفع "رسوم تنمير" أو "ضريبة رفاهية" ،إلا إذا كان البغل قد أصبح أحد وسائل الترفيه بنظر المسؤولين، كما قال مازحاً ، و الأكثر من كل ذلك أنه لا يحتاج إلى "رخصة قيادة" فببعض الكلمات المتعارف عليها لدى أصحاب "البغال" مثل "هش، دا " و غيرها يتم إيقاف البغل أو أمره بالتقدم إلى الأمام بكل بساطة.و تابع أبو عبدو حديثه ليخبرنا أنه حاول شراء سيارة ليبيع خضاره عليها لكنه وجد أن جميع الخضار التي تتجها مزرعته و ربما مزرعتين مثل مزرعته لن تكفي كلفة البنزين الذي ستصرفه السيارة، أما البغل بـ/100-200/ ليرة يومياً يعمل /24/ ساعة دون الحاجة إلى صيانة أو قطع غيار فأمراضه معروفة و طرق معالجتها سهلة و لا داعي للذهاب إلى البيطري لمعالجتها. بعد هذه الجولة في سوق "البغال" شعرنا أننا بحاجة للتفكير أكثر بأهمية هذا المخلوق و احترامه أكثر فهو يستحق الاحترام بكل جدارة، وربما أكثر من بعض البشر، فهو صابر يعمل من دون تذمر و قوي قادر على الاحتمال، فالبغل في عرف المهربين يستطيع حمل "أربع تلفزيونات" دفعة واحدة و كان له "عز" أيضا و الأهم من ذلك أنه راض بقسمته "غير متمرد" يشبه الكثير منا، و عدا عن كل ذلك يؤمن عيش الكثير من العائلات السورية بطعامه فقط.لذلك علينا أن نعيد التفكير في كلماتنا ومصطلحاتنا التي نستخدمها في حياتنا اليومية من دون أن ننتبه إلى المعنى الحقيقي لها، و أن نكون أكثر حذراً أثناء شتم بعضنا البعض و وصفنا الآخر بكلمة "بغل" لأننا نعيش ظروفاً تشبه ظروف معيشته بكل تفاصيلها ..و خاصة لجهة الدوران في المكان.أخيرا نقول أنه من المنصف أن نتخلى عن كلمة "البغل" من قاموس "شتائمنا" بكلمة تعبر عنا نحن البشر
راما الجرمقاني

No comments:

Post a Comment